فصل: تفسير الآيات (165- 167):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (165- 167):

{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
ذكر الله الوحدانية ثم الآيات الدالة على الصانع الذي لا يمكن أن يكون إلا واحداً، ثم ذكر في هذه الآية الجاحدين الضالين معجباً من سوء ضلالهم مع الآيات، لأن المعنى أن في هذه الأمور لآيات بينة، ومن الناس مع ذلك البيان من يتخذ، وخرج {يتخذ} موحداً على لفظ {من} والمعنى جمعه، و{من دون} لفظ يعطي غيبة ما تضاف إليه {دون} عن القضية التي فيها الكلام، وتفسير {دون} بسوى أو بغير لا يطرد، والند والنظير والمقاوم والموازي كان ضداً أو خلافاً أو مثلاً، إذا قاوم من جهة فهو منها ند، وقال مجاهد وقتادة: المراد بالأنداد الأوثان، وجاء ضميرها في {يحبونهم} ضمير من يعقل لما أنزلت بالعبادة منزلة من يعقل، وقال ابن عباس والسدي: المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون يطيعونهم في معاصي الله تعالى، و{يحبونهم} في موضع نصب نعت للأنداد، أو على الحال من المضمر في {يتخذ}، أو يكون في موضع رفع نعت {لمن} وهذا على أن تكون {من} نكرة والكاف من {كحب} في موضع نصب نعت لمصدر محذوف، و{حب} مصدر مضاف إلى المفعول في اللفظ وهو على التقدير مضاف إلى الفاعل المضمر، تقديره كحبكم الله أو كحبهم الله حسبما قدر كل وجه منها فرقة، ومعنى كحبهم أي يسوون بين محبة الله ومحبة الأوثان.
ثم أخبر أن المؤمنين {أشد حباً الله} لإخلاصهم وتيقنهم الحق.
وقوله تعالى: {ولو ترى الذين ظلموا} قرأ نافع وابن عامر ترى بالتاء من فوق، وأن بفتح الألف، وأن الأخرى كذلك عطف على الأولى، وتقدير ذلك: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقروا أن القوة لله، فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى، وهو العامل في أن وتقدير آخر: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوة لله جميعاً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك، ولكن خوطب والمراد أمته، فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا، وتقدير ثالث: ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأن القوة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حل بهم، فاللام مضمرة قبل أن فهي مفعول من أجله، والجواب محذوف مقدر بعد ذلك، وقد حذف جواب {لو} مبالغة، لأنك تدع السامع يسمو به تخيله، ولو شرحت له لوطنت نفسه إلى ما شرحت، وقرأ الحسن وقتادة وشيبة وأبو جعفر {ترى} بالتاء من فوق وكسر الهمزة من إن، وتأويل ذلك: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لاستعظمت ما حل بهم، ثم ابتدأ الخبر بقوله: {إن القوة لله}، وتأويل آخر: ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب يقولون إن القوة لله جميعاً لاستعظمت حالهم.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو وعاصم وابن كثير يرى بالياء من أسفل، وفتح الألف من أن، تأويله: ولو يرى في الدنيا الذين ظلموا حالهم في الآخرة إذ يرون العذاب لعلموا أن القوة لله جميعاً، وتأويل آخر روي عن المبرد والأخفش: ولو يرى بمعنى يعلم الذين ظلموا إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعاً لاستعظموا ما حل بهم، فـ يرى عامل في أن وسدت مسد المفعولين.
وقال أبو علي: الرؤية في هذه الآية رؤية البصر، والتقدير في قراءة الياء: ولو يرى الذين ظلموا أن القوة لله جميعاً، وحذف جواب {لو} للمبالغة، ويعمل في أن الفعل الظاهر وهو أرجح من أن يكون العامل فيها مقدراً، ودخلت {إذ} وهي لما مضى في أثناء هذه المستقبلات تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه، كما يقع الماضي موقع المستقبل في قوله تعالى: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} [الأعراف: 50]، و{أتى أمر الله} [النحل: 1]، ومنه قول الأشتر النخعي: [الكامل]
بقيت وفري وانحرفت عن العلا ** ولقيت أضيافي بوجه عبوس

وقرأت طائفة {يرى} بالياء من أسفل وكسر الألف من {إن}، وذلك إما على حذف الجواب وابتداء الخبر، وإما على تقدير لقالوا إن القوة لله جميعاً، وقرأ ابن عامر وحده {يُرون} بضم الياء والباقون بفتحها.
وثبتت بنص هذه الآية القوة لله بخلاف المعتزلة في نفيهم معاني الصفات القديمة، وقالت طائفة: {الذين اتبعوا}: كل من عبد من دون الله، وقال قتادة: هم الشياطين المضلون، وقال الربيع وعطاء: هم رؤساؤهم.
قال القاضي أبو محمد: ولفظ الآية يعم هذا كله، و{إذ} يحتمل أن تكون متعلقة ب {شديد العذاب}، ويحتمل أن يكون العامل فيها: اذكر، و{الذين اتبعوا} بفتح الباء هم العبدة لغيرة الله، والضالون المقلدون لرؤسائهم أو للشياطين، وتبريرهم هو بأن قالوا إنّا نضل هؤلاء بل كفروا بإرادتهم، وتعلق العقاب على المتبعين بكفرهم ولم يتأت ما حاولوه من تعليق ذنوبهم على المضلين، وقرأ مجاهد بتقديم الفعل المسند إلى المتبعين للرؤساء وتأخير المسند إلى المتبعين.
والسبب في اللغة: الحبل الرابط الموصل، فيقال في كل ما يتمسك به فيصل بين شيئين، وقال ابن عباس: {الأسباب} هنا الأرحام، وقال مجاهد: هي العهود، وقيل: المودات، وقيل: المنازل التي كانت لهم في الدنيا، وقال ابن زيد والسدي: هي الأعمال، إذ أعمال المؤمنين كالسبب في تنعيمهم فتقطعت بالظالمين أعمالهم.
وقوله تعالى: {وقال الذين اتبعوا} الآية، المعنى وقال الأتباع الذين تبرئ منهم: لو رددنا إلى الدنيا حتى نعمل صالحاً ونتبرأ منهم، والكرة: العودة إلى حال قد كانت، ومنه قول جرير: [الكامل]
ولقد عطفن على فزارة عطفة ** كر المنيح وجلن ثم مجالا

والمنيح هنا: أحد الأغفال من سهام الميسر، وذلك أنه إذا خرج من الربابة رد لفوره لأنه لا فرض فيه ولا حكم عنه، والكاف من قوله: {كما} في موضع نصب على النعت إما لمصدر أو لحال تقديرها متبرئين كما، والكاف من قوله: {كذلك يريهم} قيل: هي في موضع رفع على خبر ابتداء تقديره الأمر كذلك، وقيل: هي كاف تشبيه مجردة، والإشارة بذلك إلى حالهم وقت تمنيهم الكرة.
والرؤية في الآية هي من رؤية البصر، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب، و{أعمالهم} قال الربيع وابن زيد المعنى: الفاسدة التي ارتكبوها فوجبت لهم بها النار، وقال ابن مسعود والسدي المعنى: الصالحة التي تركوها ففاتتهم الجنة، ورويت في هذا القول أحاديث، وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها، وأما إضافة الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها، و{حسرات} حال على أن تكون الرؤية بصرية، ومفعول على أن تكون قلبية، والحسرة أعلى درجات الندامة والهم بما فات، وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته كالبعير والبصر، وقيل هي من حسر إذا كشف، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يحسر الفرات عن جبل من ذهب».

.تفسير الآيات (168- 171):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}
الخطاب عام و{ما} بمعنى الذي، و{حلالاً} حال من الضمير العائد على {ما}، وقال مكي: نعت لمفعول محذوف تقديره شيئاً حلالاً.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يبعد، وكذلك مقصد الكلام لا يعطي أن يكون {حلالاً} مفعولاً ب {كلوا} وتأمل، و{طيباً} نعت، ويصح أن يكون {طيباً} حالاً من الضمير في {كلوا} تقديره مستطيبين، والطيب عند مالك: الحلال، فهو هنا تأكيد لاختلاف اللفظ، وهو عند الشافعي: المستلذ، ولذلك يمنع أكل الحيوان القذر وكل ما هو خبيث، و{خطوات} جمع خطوة وهي ما بين القدمين في المشي، فالمعنى النهي عن اتباع الشيطان وسلوك سبله وطرائقه، قاب ابن عباس: خطواته أعماله، قاله غيره: آثاره، قال مجاهد: خطاياه، قال أبو مجلز: هي النذور والمعاصي، قال الحسن: نزلت فيما سنوه من البحيرة والسائبة ونحوه، قال النقاش: نزلت في ثقيف وخزاعة وبني الحارث بن كعب.
وقرأ ابن عامر والكسائي {خطوات} بضم الخاء والطاء، ورويت عن عاصم وابن كثير بخلاف، وقرأ الباقون بسكون الطاء، فإما أرادوا ضم الخاء والطاء وخففوها إذ هو الباب في جمع فعلة كغرفة وغرفات، وإما أنهم تركوها في الجمع على سكونها في المفرد، وقرأ أبو السمال خَطَوات بفتح الخاء والطاء وروي عن علي بن أبي طالب وقتادة والأعمش وسلام {خطؤات} بضم الخاء والطاء وهمزة على الواو، وذهب بهذه القراءة إلى أنها جمع خطأة من الخطأ لا من الخطو. وكل ما عدا السنن والشرائع من البدع والمعاصي فهي خطوات الشيطان، و{عدو} يقع للمفرد والتثنية والجمع.
وقوله تعالى: {إنما يأمركم} الآية، {إنما} تصلح للحصر، وقد تجيء غير حاصرة بل للمبالغة كقولك {إنما الشجاع عنترة}، كأنك تحاول الحصر أو توهمه، فإنما يعرف معنى {إنما} بقرينة الكلام الذي هي فيه، فهي في هذه الآية حاصرة، وأمر الشيطان إما بقوله في زمن الكهنة وحيث يتصور، وإما بوسوسته، فإذا أطيع نفذ أمره.
و{السوء} مصدر من ساء يسوء فهي المعاصي وما تسوء عاقبته، و{الفحشاء} قال السدي: هي الزنا، وقيل: كل ما بلغ حداً من الحدود لأنه يتفاحش حينئذ، وقيل: ما تفاحش ذكره، وأصل الفحش قبح المنظر كما قال امرؤ القيس: [الطويل]
وجيدٍ كجيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ** إذا هِيَ نصَّتْهُ ولا بمعطَّلِ

ثم استعملت اللفظة فيما يستقبح من المعاني، والشرع هو الذي يحسن ويقبح، فكل ما نهت عنه الشريعة فهو من الفحشاء، و{ما لا تعلمون}: قال الطبري: يريد به حرموا من البحيرة والسائبة ونحوها وجعلوه شرعاً.
وقوله تعالى: {وإذا قيل لهم} يعني كفار العرب، وقال ابن عباس: نزلت في اليهود، وقال الطبري: الضمير في {لهم} عائد على الناس من قوله: {يا أيها الناس كلوا}، وقيل: هو عائد على {من} في قوله: {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} [البقرة: 165]، و{اتّبعوا} معناه بالعمل والقبول، و{ما أنزل الله} هو القرآن والشرع، و{ألفينا} معناه وجدنا، قال الشاعر: [المتقارب]
فَأَلْفَيْتَهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ** وَلاَ ذاكر اللَّهِ إلاّ قَليلا

والألف في قوله: {أوَلو} للاستفهام، والواو لعطف جملة كلام على جملة، لأن غاية الفساد في الالتزام أن يقولوا نتبع آباءنا ولو كانوا لا يعقلون، فقرروا على التزامهم هذا إذ هذه حال آبائهم.
وقوة ألفاظ هذه الآية تعطي إبطال التقليد، وأجمعت الأمة على إبطاله في العقائد.
وقوله تعالى: {ومثل الذين كفروا} الآية، المراد تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم والكافرين الموعوظين بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول، هكذا فسر ابن عباس وعكرمة والسدي وسيبويه.
قال القاضي أبو محمد: فذكر بعض هذه الجملة وترك البعض، ودل المذكور على المحذوف وهذه نهاية الإيجاز.
والنعيق زجر الغنم والصياح بها، قال الأخطل: [الكامل]
انعَقْ بِضَأْنِكَ يا جَرِيرُ فإنَّما ** منَّتْكَ نَفْسُكَ في الْخَلاَءِ ضَلاَلا

وقال قوم: إنما وقع هذا التشبيه براعي الضأن لأنها من أبلد الحيوان، فهي تحمق راعيها، وفي المثل أحمق من راعي ضأن ثمانين، وقد قال دريد لمالك بن عوف في يوم هوازن راعي ضأن والله، وقال الشاعر: [البسيط]
أَصْبَحْتُ هُزْءاً لراعي الضَّأْنِ يَهْزَأُ بي ** مَاذَا يرِيبُكَ منّيَ رَاعيَ الضَّانِ

فمعنى الآية أن هؤلاء الكفرة يمر الدعاء على آذانهم صفحاً يسمعونه ولا يفقهونه إذ لا ينتفعون بفقهه، وقال ابن زيد: المعنى في الآية: ومثل الذين كفروا في اتباعهم آلهتهم وعبادتهم إياها كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه شيئاً إلا دوياً غير مفيد، يعني بذلك الصدى الذي يستجيب من الجبال، ووجه الطبري في الآية معنى آخر، وهو أن المراد: ومثل الكافرين في عبادتهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد منه فهو لا يسمع من أجل البعد، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه ويصبه، فإنما شبه في هذين التأويلين الكفار بالناعق والأصنام بالمنعوق به، وشبهوا في الصمم والبكم والعمى بمن لا حاسة له لما لم ينتفعوا بحواسهم ولا صرفوها في إدراك ما ينبغي، ومنه قول الشاعر: [الرجز]
أصم عمّا ساءه، سميع

ولما تقرر فقدهم لهذه الحواس قضى بأنهم {لا يعقلون} إذ العقل كما قال أبو المعالي وغيره: علوم ضرورية تعطيها هذه الحواس، أو لابد في كسبها من الحواس، وتأمل.

.تفسير الآيات (172- 174):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}
الطيب هنا يجمع الحلال المستلذ، والآية تشير بتبعيض {من} إلى الحرام رزق، وحض تعالىعلى الشكر والمعنى في كل حالة، و{إن} شرط، والمراد بهذا الشرط التثبيت وهز النفس، كما تقول افعل كذا إن كنت رجلاً.
وقوله تعالى: {إنما حرم عليكم} {إنما} هنا حاصرة، و{الميتة} نصب بحرم، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع الميتة بالتشديد، وقال الطبري وجماعة من اللغويين: التشديد والتخفيف من {ميّت} و{ميْت} لغتان، وقال أبو حاتم وغيره: ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يمت بعد فلا يقال فيه {ميْت} بالتخفيف.
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه: هكذا هو استعمال العرب ويشهد بذلك قول الشاعر: [الخفيف]
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيتٍ ** إنَّمَا المْيتُ مَيِّتُ الأَحْيَاءِ

استراح: من الراحة، وقيل: من الرائحة، ولم يقرأ أحد بالتخفيف فيما لم يمت إلا ما روى البزي عن ابن كثير {وما هو بميت} [إبراهيم: 17]، والمشهور عنه التثقيل، وأما قول الشاعر: [الوافر]
إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ ** فَسَرَّكَ أَنْ يَعِيشَ فِجِئ بِزَادِ

فالأبلغ في الهجاء أن يريد الميت حقيقة، وقد ذهب بعض الناس إلى أنه أراد من شارف الموت والأول أشعر، وقرأ قوم {الميتةُ} بالرفع على أن تكون {ما} بمعنى الذي و{إن} عاملة، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي {حُرِّمَ} على ما لم يسمَّ فاعله ورفع ما ذكر تحريمه، فإن كانت {ما} كافة فالميتة مفعول لم يسم فاعله، وإن كانت بمعنى الذي فالميتة خبر.
ولفظ {الميتة} عموم والمعنى مخصص لأن الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم، و{الميتة}: ما مات دون ذكاة مما له نفس سائلة، والطافي من الحوت جوّزه مالك وغيره ومنعه العراقيون، وفي الميت دون تسبب من الجراد خلاف، منعه مالك وجمهور أصحابه وجوزه ابن نافع وابن عبد الحكم، وقال ابن وهب: إن ضم في غرائر فضمه ذكاته، وقال ابن القاسم: لا، حتى يصنع به شيء يموت منه كقطع الرؤوس والأجنحة والأرجل أو الطرح في الماء، وقال سحنون: لا يطرح في ماء بارد، وقال أشهب: إن مات من قطع رجل أو جناح لم يؤكل لأنها حالة قد يعيش بها وينسل.
و{الدم} يراد به المسفوح لأن ما خالط اللحم فغير محرم بإجماع، وفي دم الحوت المزايل للحوت اختلاف، روي عن القابسي أنه طاهر، ويلزم من طهارته أنه غير محرم، وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك، وليعم الشحم وما هنالك من الغضاريف وغيرها، وأجمعت الأمة على تحريم شحمه، وفي خنزير الماء كراهية، أبي مالك أن يجيب فيه، وقال أنتم تقولون خنزيراً.
وذهب أكثر اللغويين إلى أن لفظة الخنزير رباعية، وحكى ابن سيده عن بعضهم أنه مشتق من خزر العين لأنه كذلك ينظر، فاللفظة على هذا ثلاثية.
و{ما أُهِلّ به لغير الله}، قال ابن عباس وغيره: المراد ما ذبح للأنصاب والأوثان، و{أهل} معناه صيح، ومنه استهلال المولود، وجرت عادة العرب بالصياح باسم المقصود بالذبيحة، وغلب ذلك في استعمالهم حتى عبر به النية التي هي علة التحريم، ألا ترى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه راعى النية في الإبل التي نحرها غالب أبو الفرزدق، فقال إنها مما أُهلَّ به لغير الله فتركها الناس، ورأيت في أخبار الحسن بن أبي الحسن أنه سئل عن امرأة مترفة صنعت للعبها عرساً فذبحت جزوراً، فقال الحسن: لا يحل أكلها فإنها إنما ذبحت لصنم، وفي ذبيحة المجوسي اختلاف ومالك لا يجيزها البتة، وذبيحة النصراني واليهودي جائزة.
واختلف فيما حرم عليهم كالطريف والشحم وغيره بالإجازة والمنع، وقال ابن حبيب ما حرم عليهم بالكتاب فلا يحل لنا من ذبحهم، وما حرموه باجتهادهم فذاك لنا حلال، وعند مالك كراهية فيما سمى عليه الكتابي المسيحي أو ذبحه لكنيسته ولا يبلغ بذلك التحريم، وقوله تعالى {فمن اضطر} الآية، ضمت النون للالتقاء إتباعاً للضمة في الطاء حسب قراءة الجمهور، وقرأ أبو جعفر وأبو السمال {فمن اضطِر} بكسر الطاء، وأصله اضطر فلما أدغم نقلت حركة الراء الطاء، وقرأ ابن محيصن، {فمن اطّر} بإدغام الضاد في الطاء، وكذلك حيث ما وقع في القرآن، ومعنى {اضطر}: ضمه عدم وغرث، هذا هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء والفقهاء، وقيل معناه أُكرِهَ وغلب على أكل هذه المحرمات، و{غير باغ} في موضع نصب على الحال، والمعنى فيما قال قتادة والربيع وابن زيد وعكرمة وغيرهم غير قاصد فساد وتعدٍّ بأن يجد عن هذه المحرمات مندوحة ويأكلها، وهؤلاء يجيزون الأكل منها في كل سفر مع الضرورة، وقال مجاهد وابن جبير وغيرهما المعنى غير باغ على المسلمين وعاد عليهم، فيدخل في الباغي والعادي قطاع السبل، والخارج على السلطان، والمسافر في قطع الرحم والغارة على المسلمين وما شاكله، ولغير هؤلاء هي الرخصة، وقال السدي {غير باغ} أي غير متزيد على حد إمساك رمقه وإبقاء قوته، فيجيء أكله شهوة، {ولا عاد} أي متزود، وقال مالك رحمه الله: يأكل المضطر شبعه، وفي الموطأ- وهو لكثير من العلماء: أنه يتزود إذا خشي الضرورة فيما بين يديه من مفازة وقفر، وقيل: في {عاد} أن معناه عايد، فهو من المقلوب كشاكي السلاح أصله شايك وكهار أصله هايروكلاث أصله لائث وباغ أصله بايغ، استثقلت الكسر على الياء فسكنت، والتنوين ساكن فحذفت الياء والكسرة تدل عليها.
ورفع الله تعالى الإثم لمّا أحل الميتة للمضطر لأن التحريم في الحقيقة متعلقه التصرف بالأكل لا عين المحرم، ويطلق التحريم على العين تجوزاً، ومنع قوم التزود من الميتة وقالوا لما استقلت قوة الآكل صار كمن لم تصبه ضرورة قبل.
ومن العلماء من يرى أن الميتة من ابن آدم، والخنزير لا تكون فيها رخصة اضطرار، لأنهما لا تصح فيهما ذكاة بوجه، وإنما الرخصة فيما تصح الذكاة في نوعه.
وقوله تعالى: {إن الذين يكتمون} الآية، قال ابن عباس وقتادة والربيع والسدي: المراد أحبار اليهود الذين كتموا أمر محمد صلى الله عليه وسلم، و{الكتاب}: التوراة والإنجيل: والضمير في {به} عائد على {الكتاب}، ويحتمل أن يعود على {ما} وهو جزء من الكتاب، فيه أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه وقع الكتم لا في جميع الكتاب، ويحتمل أن يعود على الكتمان، والثمن القليل: الدنيا والمكاسب، ووصف بالقلة لانقضائه ونفاده، وهذه الآية وإن كانت نزلت في الأحبار فإنها تتناول من علماء المسلمين من كتم الحق مختاراً لذلك لسبب دنيا يصيبها.
وذكرت البطون في أكلهم المؤدي إلى النار دلالة على حقيقة الأكل، إذ قد يستعمل مجازاً في مثل أكل فلان أرضي ونحوه، وفي ذكر البطن أيضاً تنبيه على مذمتهم بأنهم باعوا آخرتهم بحظهم من المطعم الذي لا خطر له، وعلى هجنتهم بطاعة بطونهم، وقال الربيع وغيره: سمي مأكولهم ناراً لأنه يؤول بهم إلى النار، وقيل: معنى الآية: أن الله تعالى يعاقبهم على كتمانهم بأكل النار في جهنم حقيقة، وقوله تعالى: {ولا يكلمهم} قيل: هي عبارة عن الغضب عليهم وإزالة الرضى عنهم، إذ في غير موضع من القرآن ما ظاهره أن الله تعالى يكلم الكافرين، كقوله: {اخسؤوا فيها} [المؤمنون: 108]، ونحوه، فتكون هذه الآية بمنزلة قولك: فلان لا يكلمه السلطان ولا يلتفت إليه وأنت إنما تعبر عن انحطاط منزلته لديه، وقال الطبري وغيره: المعنى ولا يكلمهم بما يحبون، وقيل: المعنى لا يرسل إليهم الملائكة بالتحية، {ولا يزكيهم} معناه: لا يطهرهم من موجبات العذاب، وقيل: المعنى لا يسميهم أزكياء، و{أليم} اسم فاعل بمعنى مؤلم.